كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ومما يروى في سبب النزول عن ابن عباس أنه لما أسر العباس يوم بدر عيّره المسلمون بالكفر وقطيعة الرحم، فأغلظ علي له القول، فقال العباس: ما لكم تذكرون مساوينا ولا تذكرون محاسننا، فقال له علي رضي اللّه عنه: ألكم محاسن؟
فقال: نعم، إنّا لنعمر المسجد الحرام، ونحجب الكعبة ونسقي الحاج. فأنزل اللّه عزّ وجلّ ردا على العباس: {ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ} إلخ والمراد أنها تتضمن الرد على ذلك القول الذي كان يقوله ويفخر به هو وغيره من كبراء المشركين أيضا، لا أنها نزلت عند ما قال ذلك لأجل الرد عليه في أيام بدر، بل نزلت في ضمن السورة بعد الرجوع من غزوة تبوك.
وقوله تعالى: {ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ}. إلخ النفي في مثله يسمّى نفي الشأن، وهو أبلغ من نفي الفعل، لأنّه نفي له بالدليل، والعمارة للمسجد كما يؤخذ من نصوص اللغة تطلق على عبادة اللّه فيه مطلقا، وعلى النسك المخصوص المسمى بالعمرة، وهي خاصّة بالمسجد الحرام، وعلى لزومه والإقامة فيه لخدمته الحسية، وعلى بنيانه وترميمه. وكلّ ذلك مراد هنا، لأنّ اللفظ يدل عليه، والمقام يقتضيه. والمختار عند الحنفية استعمال المشترك في معانيه التي يقتضيها المقام تبعا للشافعي وابن جرير.
وقوله: {مَساجِدَ اللَّهِ} قرئ بالإفراد، والمتبادر منه إرادة المسجد الحرام، لأنّه المفرد العلم الأكمل الأفضل، وإن كان المفرد المضاف يفيد العموم في الأصل.
ومن قرأ بالجمع فإما أن يراد جميع المساجد، فيشمل المسجد الحرام أيضا، الذي هو أشرفها، وهذا آكد، لأنّ طريقه طريق الكناية، كما لو قلت: فلان لا يقرأ كتب اللّه كنت أنفى لقراءته القرآن من تصريحك بذلك.
وإما أن يراد المسجد الحرام، وجمع لأنه قبلة المساجد، أو لأن كل بقعة منه مسجد.
وقوله: {شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} حال من الواو في {يعمروا} وهو قيد للنفي قبله مبين لعلته. والعلة الحقيقية هي نفس الكفر لا الشهادة به، ونكتة تقييده بها بيان أنه كفر صريح معترف به، لا تمكن المكابرة فيه. والشهادة بالكفر: قيل إنها بإظهار آثار الشرك من نصب الأوثان حول البيت والعبادة لها. وقيل: بقولهم: لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك. وقيل: بقولهم كفرنا بما جاء به محمد.
والظاهر شمول الشهادة لذلك كله.
والمعنى: ما كان ينبغي ولا يصح للمشركين، ولا من شأنهم الذي يقتضيه شركهم، أو الذي يشرعه، أو يرضاه اللّه منهم أو يقرهم عليه، أن يعمروا مسجد اللّه الأعظم وبيته المحرم بأي نوع من أنواع العمارة المتقدمة في حال كونهم كافرين، شاهدين على أنفسهم بالكفر قولا وعملا، لأنّ هذا جمع بين الضدين، فإنّ عمارة مساجد اللّه الحسية إنما تكون لعمارتها المعنوية، بعبادته فيها وحده، ولا تصح ولا تقع إلا من المؤمن الموحّد له، وذلك ضد الكفر به.
وهاهنا مسألتان:
الأولى: هل يجوز أن يستخدم المسلم الكافر في بناء المساجد، أو لا يجوز، لأنّه من العمارة الحسية الممنوعة، قيل بالثاني، وفيه نظر، لأنّ الممنوع منها إنما هو الولاية عليها، والاستقلال بالقيام بمصالحها، كأن يكون ناظر المسجد وأوقافه كافرا.
وأما استخدام الكافر في عمل لا ولاية فيه، كنحت الحجارة، والبناء والنجارة، فلا يظهر دخوله في المنع، ولا فيما ذكر من نفي الشأن.
والثانية: يؤخذ من تفسير المنار أنه إذا وقع من بعض الحكام والأفراد من غير المسلمين أن من بنى مسجدا للمسلمين أو أوصى بمال لعمارة مسجد لهم لمصلحة له في ذلك، جواز قبولنا مثل هذا المسجد، وهذه الوصية بشرط ألا يكون فيهما ضرر ديني أو سياسي، لأنّه حينئذ يكون كمسجد الضرار.
{أُولئِكَ المشركون حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ} أي بطلت أجور أعمالهم الخيرية:
كصدقة، وصلة رحم، وقرى ضيف، وإغاثة ملهوف، وغيرهما مما يفخرون به:
كعمارة مسجد، وسقاية حاج، فلا ثواب لهم عليها في الآخرة لعدم شرطها، وهو الإيمان، وإن كانوا يجازون عليها في الدنيا بإعطاء الولد والمال والصحة والعافية.
{وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ} لعظم ما ارتكبوه. وهذه الجملة قيل: عطف على جملة {حَبِطَتْ} على أنها خبر آخر لأولئك وقيل: هي مستأنفة كجملة {أُولئِكَ حَبِطَتْ} وفائدتهما تقرير النفي السابق.
الأولى من جهة نفي استتباع الثواب، والثانية: من جهة نفي استدفاع العذاب.
{إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)}.
بعد أن بين عدم استحقاق المشركين لعمارة مساجد اللّه أثبتها للمسلمين الكاملين، وجعلها مقصورة عليهم بالفعل، وهم الجامعون بين الإيمان باللّه على الوجه الحق، والإيمان باليوم الآخر الذي فيه الجزاء، وبين إقامة الصلاة المفروضة بأركانها وآدابها، وتدبر تلاوتها وأذكارها، التي تكسب مقيمها مراقبة اللّه وحبه والخشوع له والإنابة إليه، وإعطاء زكاة الأموال لمستحقيها، وبين خشية اللّه دون غيره ممن لا ينفع ولا يضر كالأصنام وسائر ما عبد من دون اللّه خوفا من ضرره، أو رجاء في نفعه.
فالمراد بالخشية الديني منها دون الغريزي، كخشية أسباب الضرر الحقيقية، فإنّ هذا لا ينافي خشية اللّه.
قيل: ولم يذكر الإيمان بالرسول صلّى اللّه عليه وسلّم مع الإيمان باللّه، لأنه لما ذكر الصلاة وهي لا تتم إلا بالأذان والإقامة والتشهد، وهذه الأشياء تتضمن الإيمان بالرسول صلّى اللّه عليه وسلّم كان ذلك كافيا.
{فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} أي فأولئك الجامعون لهذه الأوصاف هم الذين يرجون بحق أو يرجى لهم بحسب سنن اللّه في أعمال البشر وتأثيرها في إصلاحهم أن يكونوا من جماعة المهتدين إلى ما يحب اللّه ويرضى من عمارة مساجده حسا ومعنى.
ومعلوم أنّ الرجاء المستفاد من عسى لا يصح أن يكون صادرا من اللّه، لأنّ حقيقته ظنّ بحصول أمر وقعت أسبابه، واتخذت وسائله من مبتغيه.
ويستنبط من الآيتين أمور:
1- أنّ أعمال البر الصادرة من المشركين لا تجلب لهم ثوابا في الآخرة، ولا تدفع عنهم عذابا.
2- أن كل ما اتصف بالإيمان، وما عطف عليه من الأوصاف المتقدمة فهو الجدير دون غيره بأن يقبل اللّه منه عمارة مساجده.
3- أخذ بعضهم من قوله تعالى: {وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ} أنه ينبغي لمن بنى مسجدا أن يخلص للّه في بنائه بحيث لا يكون الباعث له على بنائه رياء ولا سمعة.
4- يؤخذ من التعبير بعسى في جانب المؤمنين قطع طماعية المشركين في الانتفاع بأعمالهم التي استعظموها، وافتخروا بها، حيث بيّن اللّه تعالى أن حصول الاهتداء لمن آمنوا باللّه، ولم يخشوا غيره دائر بين لعل وعسى. وإذا كان حال المؤمنين هكذا فلا يليق بالمشرك أن يرجو لنفسه الهداية والفوز بالخير فضلا عن قطعه بذلك.
5- التنويه بفضل عمارة المساجد وقد ورد في عمارة المساجد الحسية والمعنوية أحاديث كثيرة:
ومنها ما رواه أحمد والترمذي وحسنه وابن ماجه والحاكم وغيرهم من حديث أبي سعيد رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان، وتلا إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ» الآية وهو نص في العمارة المعنوية، كما أنّ الحديث الأول نص في الحسية.
قال الله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28)}
الأكثرون على أن لفظ المشركين خاصّ بعباد الأوثان. وقال قوم: يتناول جميع الكفار، ويدل لهذا القول قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ} [النساء: 48] أي لا يغفر أن يكفر به، وهذا هو الظاهر.
والنجس- بفتح الجيم- مصدر.
والعيلة: الفقر والفاقة.
نهى اللّه المؤمنين عن أن يقرب المشركون المسجد الحرام، أي عن تمكينهم من قربان المسجد الحرام، وعلّل هذا بأنهم نجس، إما لخبث باطنهم، أو لأن معهم الشرك المنزل منزلة النجس الذي يجب اجتنابه، أو لأنهم لا يتطهرون، ولا يغتسلون، ولا يجتنبون النجاسات.
وقوله: {فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ} هذا تفريع على نجاستهم، واختلف العلماء في المراد بالمسجد الحرام فقال عطاء: الحرم كله قبلة ومسجد، فليس المراد خصوص المسجد الحرام، وإنما المراد منعهم من دخول المسجد الحرام ومكة والحرام. وقيل: المراد خصوص المسجد الحرام وهو مذهب الشافعية أخذا بظاهر اللفظ، وقيل المراد المسجد الحرام بالنص، وبقية المساجد تقاس عليه، لأن العلّة، وهي النجاسة، موجودة في المشركين، والحرمة موجودة في كل مسجد- وهو مذهب المالكية- فلا يجوز تمكينهم من دخول المسجد الحرام والمساجد كلها.
وقيل: ليس المراد النهي عن دخول المسجد الحرام، وإنما المراد النهي عن أن يحج المشركون ويعتمروا كما كانوا يعملون في الجاهلية- وهو مذهب الحنفية- ويؤيد ذلك أمور:
1- قوله: {بَعْدَ عامِهِمْ} هذا فإنّ تقييد النهي بذلك يدل على اختصاص المنهي عنه بوقت من أوقات العام، أي لا يحجوا ولا يعتمروا بعد حج عامهم هذا، وهو العام التاسع من الهجرة.
2- قول علي بن أبي طالب كرم اللّه وجهه حين نادى بسورة براءة: ألا لا يحجّ بعد عامنا هذا مشرك.
3- قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ} فإنّ خشية العيلة تكون بسبب انقطاع تلك المواسم، لمنع المشركين من الحج والعمرة، لأن المؤمنين كانوا ينتفعون بالتجارات التي تروج في مواسم الحج.
4- إجماع المسلمين على منع المشركين من الحج والوقوف بعرفة والمزدلفة وسائر أعمال الحج، وإن لم تكن في المسجد.
وقوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} أي إن خفتم فقرأ بسبب منعهم من الحج وانقطاع ما كانوا يجلبونه إليكم من الأرزاق والمكاسب، فسوف يغنيكم اللّه.
وهذا الجزاء إخبار عن غيب في المستقبل وقد وقع الأمر مطابقا لهذا الخبر، فقد أسلم الناس من أهل جدة، وصنعاء وحنين وتبالة وجرش وكثر ترددهم على مكة بالتجارات وحمل الطعام وما يعاش به، وقد أرسل اللّه عليهم السماء مدرارا، فكثر خيرهم، واتسعت أرزاقهم، وتوجه الناس إليهم من أقطار الأرض.
والتعبير بالمشيئة في قوله: {إِنْ شاءَ} لتعليم رعاية الأدب مع اللّه تعالى كما في قوله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح: 27] وللإشارة إلى أنه لا ينبغي الاعتماد على أنّ المطلوب يحصل حتما، بل لابد من أن يتضرع المرء إلى اللّه تعالى في طلب الخيرات، وفي دفع الآفات {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ} بأحوالكم و{حَكِيمٌ} يعطي ويمنع عن حكمة وصواب.